منذ أن بدأت الاحتجاجات الشعبية في العراق في الأول من تشرين الأول من عام 2019، وهي تكبر ككرة الثلج المتدحرجة، احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية، نتيجة الفساد المتغلغل بمفاصل الدولة وهيمنة إيران وميليشياتها على البلاد والعباد، وقد واجهت الأجهزة الأمنية الحكومية المظاهرات بالقمع والعنف واستهداف وقتل الناشطين والصحافيين الذين يقودون المظاهرات بهدف التقليل من زخمها وإنهاء مظاهرها، وكان رد الفعل الشعبي المقابل للقمع والقتل والاعتقال هو توسع القاعدة الشعبية للاحتجاجات والمطالب الشعبية المحقة، وكلما زادت عمليات القتل والقمع من قبل الحكومة العراقية كلما زاد تمسك الشباب بالثورة وزادت مطالبهم، كما كان لثورة تشرين الفضل في بناء قاعدة شعبية واسعة من الشباب العراقي المؤمن بالهوية الوطنية والولاء للوطن أولاً وأخيراً ورفض الطائفية والتبعية.
وقد ترافق مع عمليات القمع والقتل المنفذة من قبل الأجهزة الأمنية الحكومية، عمليات قتل وتصفية من قبل المليشيات الطائفية، خاصة استهداف قادة الاحتجاجات الشعبية والناشطين المدنيين والصحفيين، إضافة إلى عمليات تفجير منازل لأولئك الناشطين، وهذا ما أدى إلى فقدان خاصية الأمان الأساسية في حياة المحتجين وعوائلهم، مما أحدث عمليات نزوح وهجرة كبيرة للشباب العراقي خارج مناطق سيطرة المليشيات الولائية والأجهزة الأمنية القمعية، حيث يتوجه أغلب الشباب المحتجين والناشطين المدنيين إلى مدن ومناطق إقليم كردستان الأكثر أمناً وأماناً من مدن وبلدات باقي المحافظات العراقية، خاصة التي تقع تحت السيطرة المباشرة لفصائل ومليشيا الحشد المتنوعة، وقد انعكست عمليات الهجرة والنزوح هذه بشكل سلبي على ثورة تشرين وعلى معنويات شبابها.
لكن ما ينقص ثورة تشرين وشبابها ليس فقط الأمن والأمان، فالأهم هو خطاب وطني شامل يجمع بين أطراف الشعب العراقي الواحد بمختلف أطيافه ومكوناته، والأهم هو قيادة موحدة فاعلة تجمع شباب الوطن الثائر في وجه الفساد والفاسدين، وأيضاً الأهم هو الإعداد والتنظيم لتشكيل قوّة سياسية شبابية مدنية يكون لها دور أساسّ في حاضر ومستقبل العراق، ويكون لها الدور الأكبر في إيصال صوت المحتجين ومطالبهم وحمايتهم من قمع الأجهزة الأمنية والمليشيات الطائفية.
والآن ما ينقص تشكيل تلك القوّة السياسية هو قلة الخبرة السياسية للشباب المتظاهرين، بالإضافة إلى عدم التنسيق بين قيادات التظاهر في مختلف المدن والساحات العراقية وتنظيم احتجاجات متوافقة في الوقت والمطالب، كما أن بعض المندسين والمتخاذلين استطاعوا خرق الجماهير وتحييد بعض المحتجين عن مطالبهم وأهدافهم، كما استطاع هؤلاء المندسين تشكيل أحزاب ظلٍ مدنية تتبع بالخفاء للأحزاب والكتل السياسية الفاسدة، وقد تم تسجيل هذه الأحزاب في مفوضية الانتخابات العليا للمشاركة في الانتخابات المبكرة القادمة، وتضليل الشارع العراقي على اعتبارها خرجت من الشارع العراقي المتظاهر، فيما بقي المحتجين الحقيقيين وأصحاب المطالب المحقة بلا غطاء سياسي أو تمثيل حقيقي في البرلمان أو في باقي مفاصل الدولة.
هذا كله من جهة ومن جهة أخرى، فالأحزاب السياسية الفاسدة والضالعة بالسياسة والتي خرجت ضدها الجماهير العراقية باقية في سياستها وتمثيلها السياسي وسيطرتها على مفاصل السلطة والحكومة، مع العلم أنها خسرت الكثير من قاعدتها الشعبية وتمثيلها للجماهير، لكن إلى الآن لا يوجد لها منافس أو بديل في ظل ضعف التمثيل السياسي للشباب الثائر، أو عدم وجود كيان سياسي مستقل وقوي تلتف حوله تلك الشباب. ولا زالت الفرصة متاحة لأولئك الشباب لكي ينجحوا في بناء الكيان السياسي المستقل برؤية ناضجة وواضحة وتنفيذ مطالب الشارع العراقي للنهوض بوطن يحلم به الجميع.